مقدمة
...
المقدمة
إنَّ الحمد لله، نحمده سبحانه وتعالى ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وخليله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فقد قال تعالى {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}1 .
قال ابن خلدون: "إن فن التاريخ من الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال وتشد إليه الركائب والرحال، وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال2، وتتساوى في فهمه العلماء والجهال، إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأُول، تنمو فيها الأقوال وتضرب فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصَّها الاحتفال، وتؤدي لنا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول فيها النطاق والمجال، وعَمَروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزوال، وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع
__________
1سورة هود: 120
2 االأقيال: جمع قيل وهو الملك أو من ملوك حمير، أو هو دون الملك الأعلى.
"اللسان": (مادة: قول).
الباب الأول : السرايا والبعوث النبوية داخل وخارج المدينة
الفصل الأول : السرايا الا عتراضية
مقدمه
...
مقدمة
بعد أن استقر المقام بالمسلمين في المدينة النبوية، عاصمة الإسلام الأولى، ومأزره، بدأ العمل الدءوب الشاق لتثبيت دعائم الدولة الإسلامية، التي كانت فتية وفي طور الإنشاء والتكوين.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أخذ على عاتقه النهوض بهذه الدولة، فقام بعدة مبادرات سريعة لحل بعض المشكلات العارضة، وإن كانت في حد ذاتها تمهيدًا (لاستراتيجيات) بعيدة المدى.
فعلى النطاق الاجتماعي سن نظام المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ذلك النظام الذي استطاع به أن يحل مشكلة المجتمع المسلم في المدينة والذي تكون من فئات مختلفة ومستويات متفاوتة حتى أصبح بفضل من الله تبارك وتعالى مجتمعًا واحدًا مترابطًا انصهر تدريجيًّا في بوتقة الإيمان فذاب فيها.
{وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} 1.
هذه المبادرة - وإن كانت حلاًّ وقتيًّا أملته الظروف الحادثة - لكنها في نفس الوقت تمهيد (لاستراتيجية) أخوة الإسلام، تلك الأخوة التي لا تربط بالدم والعرق والأرض كما تعوَّد العرب في الجاهلية، بل بالدين والعقيدة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} 2 وذلك هو شأن الإسلام الذي يعتمد أساسًا على عملية التدرج في تشريع الأحكام والمعاملات بين أفراده.
__________
1 آل عمران: (103).
2 الحجرات: (10).
أول السرايا
...
أول السرايا
اختلف أهل المغازي في أول السرايا والبعوث.
فمنهم من جعلها سرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه1 وروى ابن إسحاق بلا سند أن راية عبيدة بي الحارث هي"أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام لأحد من المسلمين"2 أما غالبية أهل المغازي فقد أجمعوا على أن أول سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة بن عبد المطلب"3 رضي الله عنه.
__________
1 وقع ذلك في روايتين إحداهما عن زر بن حبيش رواها الطبراني في معجمه، وأخرجها الهيثمي علي بن أبي بكر في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (6/76) وقال عن إسنادها أنه حسن. قلت: وحيث إن هذه الرواية ليست مما يضمه القسم المطبوع من معاجم الطبراني الثلاثة، فلا نستطيع الحكم على سندها إلى زر، لأن الهيثمي معروف بتساهله في الحكم على رجال السند، وإن صح السند إلى زر فتبقى علة الإرسال.
وقد ذكر مغلطاي أن النيسابوري رواه في كتابه الكبير بسند لا بأس به عن زر. انظر مغلطاي قلج، الزهر الباسم في سيرة أبي القاسم (15/23).
والرواية الثانية عن الشعبي أخرجها عنه خليفة بن خياط (تاريخ ص: 62) لكن في سندها جهالة عين تضاف إلى علة الإرسال. وهناك رواية مسندة إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في آخرها: "فبعث علينا عبد الله بن جحش الأسدي فكان أول أمير أمر في الإسلام" أخرجها أحمد في المسند انظر البنا أحمد عبد الرحمن، الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل (21/25-26)، وابن أبي شيبة عبد الله، المصنف (14/351-352)، ورواه البزار مختصرًا مسند سعد بن أبي وقاص (لوحة 134). وقد ذكر البنا عن أبي زرعة: أن هذه الروايات منقطعة. راجع البنا، الفتح (21/26) ولكن البيهقي رواها من وجه آخر موصولة. انظر البيهقي دلائل (3/15). قلت: إن سلمت الرواية من علة الانقطاع فإنها لا تسلم من ضعف المجالد بن سعيد الذي عليه مدار الروايات كلها، ومن ضعف محمد بن يونس الكديمي في الرواية الموصولة (انظر ابن حجر، تقريب ص: 515-520).
2 رواها بن إسحاق بلا سند، وأخرجه عنه كل من ابن خياط، تاريخ (61)، وابن هشام، سيرة (2/591) واللفظ له، والطبري محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك (2/404)، والبيهقي دلائل (3/10)، وابن سيد الناس عيون الأثر (1/271-272)، كما أخرج ابن سيد الناس بسند ضعيف عن ابن عباس رضي الله عنهما في رواية ذكر بعث عبيدة، ثم بعث حمزة بنحو ما ذكر ابن إسحاق عيون الأثر (1/272)، وذكر ذلك الزبير بن بكار عن إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز. انظر ابن حجر، فتح الباري (84:7)، والإصابة (2/34).
3 قال بذلك عروة بن الزبير في روايتين، الأولى أخرجها البيهقي في الدلائل (3/
، والثانية أخرجها ابن سيد الناس في العيون (1/271)،
سرية حمزة بن عبد المطلب إلى سيف البحر
...
سرية حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه إلى سيف البحر
تنفيذًا لأمر الله عز وجل ودعوته لجهاد المشركين انطلقت طلائع الإيمان تبث الرعب في صفوف المشركين، فقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هناك قافلة قرشية محملة بالأموال والبضائع وهي في طريق عودتها إلى مكة من الشام، يقودها أبو جهل بن هشام، ويحرسها حوالي ثلثمائة راكب من فرسان قريش1، فجهز لها رسول الله صلى الله عليه وسلم "دورية قتال اعتراضية قوتها" ثلاثون مجاهدًا من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد2 وعلى رأسهم أسد الله
__________
1 ذكر معظم أهل المغازي المعتمدين كعروة بن الزبير أخرجه عنه البيهقي، دلائل (3/10)، وابن إسحاق. انظر ابن خياط، تاريخ (62)، ابن هشام، سيرة (2/595)، والطبري تاريخ (2/404-405)، وابن سيد الناس، عيون (1/271) وابن كثير، بداية (3/244) والواقدي، مغازي (1/9)، وابن سعد، طبقات (2/7)، والبلاذري، أنساب (371)، والمدائني، أخرجه عمه العسكري في الأوائل (1/184)، وابن حزم، جوامع السيرة (101)، وابن عبد البر، الدرر في اختصار المغازي والسير (105). والعامري، بهجة المحافل (1/176)، والقسطلاني، المواهب اللدنية (1/75).
ولم يخالف إلا الزهري فيما رواه عنه موسى بن عقبة، وأخرجه عنه كل من البيهقي في الدلائل (3/9)، وابن سيد الناس، عيون (1/217)، حيث ذكر أن عددهم كان ثلاثين ومائة راكب. وأعتقد أن ذلك هو الراجح؛ لأن ثلثمائة فارس لحراسة قافلة أمر مبالغ فيه، والله تعالى أعلم.
قلت: ربما تحرف أحد الرقمين في وقت مبكر، والله أعلم.
2 هذا ما أجمع عليه أهل المغازي غير ما انفرد به الواقدي من أنهم كانوا "شطرين خمسة عشر من المهاجرين، وخمسة عشر من الأنصار فكان من المهاجرين أبو عبيدة بن الجراح وأبوحذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسالم مولى أبي حذيفة، وعامر بن ربيعة، وعمرو بن سراقة، وزيد بن حارثة، وكناز بن الحصين، وابنه مرثد بن كناز، وأنس مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجال، ومن الأنصار: أبي بن كعب، وعمارة بن حزم، وعبادة بن الصامت، وعبيد بن أوس، وأوس بن خولي، وأبو دجانة، والمنذر بن عمرو، ورافع بن مالك، وعبد الله بن عمرو بن حزام، وقطبة بن عامر بن حديدة في رجال لم يسموا لنا"، ثم عاد الواقدي ليعقب برواية تناقض قوله رواها بسنده عن ابن المسيَّب، وعبد الرحمن بن سعبد بن يربوع، قالا: "لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدًا من الأنصار مبعثًا حتى غزا بنفسه إلى بدر، وذلك أنه ظن أنهم لا ينصرونه إلا في الدار، وهو المثبت. الواقدي، مغازي (1/9-10). وكذا جزم ابن سعد في "الطبقات" (2/7) إلا أن ابن سيد الناس ذكر في كتابه "نور العيون" ونقله عنه الزرقاني: أن ابن سعد قد ذكر في غزوة بواط مشاركة سعد بن معاذ رضي الله عنه كحامل للواء، وأن ذلك يناقض قوله هذا، وقد حاول الزرقاني الذي أورد قول ابن=